Site icon عكّار أولاً

“حين تعود السياسة إلى الناس: قراءة في نموذج الحاج وليد البعريني”



بقلم الدكتورة علا عيد


السياسة، في معناها الأول، ليست هندسة سلطة ولا تقنية حكم، بل هي ذلك الخيط اللامرئي الذي يربط الإنسان بالإنسان. هي القدرة على الإصغاء قبل الخطابة، وعلى الاقتراب قبل الوعظ، وعلى لمس الوجع قبل تعداد الوعود. السياسة ـ حين تُمارَس كما يجب ـ ليست مهنة باردة، بل شعورٌ بالآخر، حضورٌ في يومياته، ومسؤوليةٌ أمام فقره وأمانيه وأخطائه وتعبه.

لكنّ ما نراه اليوم، في كثير من المشاهد، هو انقطاعٌ بين السياسي والإنسان. صار بعض السياسيين يأتون إلى الناس كما يأتي الغريب إلى بيت لا يعرفه: يدخل محمولًا بالمنفعة، ويخرج محمولًا بالنسيان. يزور حين يحتاج، ويغيب حين يحتاج الناس إليه. وهنا تبدأ الكارثة الأخلاقية: حين تتحوّل العلاقة بين المواطن والسياسي إلى صفقة، وحين يُختزل الوطن إلى موسم.

في مقابل هذا النموذج الهشّ، يبرز نموذج آخر، لا يُصنع في المكاتب ولا في الحملات، بل يصنعه الزمن والعيش المشترك والاختبار اليومي. نموذجٌ يجسّده الحاج وليد البعريني، لا بوصفه سياسيًا فقط، بل بوصفه واحدًا من الناس، بقي بينهم ولم يغادر طباعهم، يعرف أسماءهم قبل أرقامهم، ويعرف همومهم بلا وسطاء.

ليس سرًّا أن الضنية والمنية وعكار ـ بكل تضاريسها الإنسانية ـ لا تحب السياسي الغريب عنها. هذه المناطق لا يمنحها الناس لأحد، بل تمنحُ نفسها لمن يعيش معها حقيقتها، لِمن تجده معك في المأتم قبل المهرجان، وفي الزيارة الصامتة قبل الظهور الإعلامي، ولِمن يمرّ في الحارات دون كاميرات، وقد اعتاد الناس رؤيته بينهم قبل أن يعتادوا صورته على الملصقات.

وليد البعريني هو من هذا القماشة:
سياسيٌّ لم يقطع صلته بالناس، لأن هذه الصلة ليست خيارًا عنده بل طبيعة.
وليس في سيرته تلك الفجوة التي تفصل البعض عن ناسهم حين “تكبر المناصب”.
بل ظلّ كما هو: ابن البيئة التي خرج منها، ولسان أهلها، وذاك الذي اختبر الفقر ولم ينسه، وعرف الضيق فصار بابًا للفرج ما استطاع.

في زمنٍ صار فيه السياسي يطلّ على الناس من وراء زجاجٍ عازل، يأتي البعريني من النوع الذي يفتح النوافذ. وفي زمنٍ يجلس فيه البعض فوق مقاعدهم كأنهم فوق الناس، يأتي هو ليجلس بينهم كأنه واحدٌ منهم. الفرق جوهري:
هناك من يعيش السياسة بحثًا عن رأسمالٍ انتخابي،
وهناك من يعيشها بحثًا عن معنى.

والسياسي الذي يبحث عن المعنى، يفهم أن الناس ليسوا سلّمًا إلى السلطة، بل هم غاية السياسة كلها. وأن خدمة الناس ليست استثناءً موسميًا، بل قاعدة تحكم كل قرار. وأن السياسة، حين تعود إلى جذورها، تصبح فعل حماية لا فعل تباهٍ، وفعل بناء لا فعل تفكّك.

من هنا، يصبح الكلام عن وليد البعريني ليس مديحًا، بل توصيفًا لنمطٍ من السياسة نحتاج إليه:
سياسة تنزل عن المنابر لتسير في الأزقّة،
تحترم كرامة الناس أكثر مما تحترم البروتوكولات،
وتفهم أنّ كل صورة تُلتقط مع المواطن هي مسؤولية، لا مادة دعاية.

لقد أنهك الناسَ السياسي الذي يأتي بوجوهٍ مبتسرة لا تشبههم، ويغادر بوعودٍ لم تُخلق لِتُنفَّذ.
لكنهم لم يتعبوا من السياسي الذي يبقى واحدًا منهم، والذي يزورهم لأنه يعرف قيمة الزيارة، لا لأنه يعرف تاريخ الانتخابات.

ولهذا تمامًا، يبقى وليد البعريني نموذجًا حقيقيًا للسياسة حين تكون علاقة، وللقيادة حين تكون انحيازًا لأهلها، وللحضور حين يكون صدقًا لا استعراضًا.

إنّ السياسة التي تُبنى على الناس تبقى،
والسياسة التي تُبنى على المصلحة تزول.
والتاريخ ـ مهما طال ـ لا يحفظ إلا من جعل من الناس وطنه، ومن خدمتهم رسالته، ومن صدقهم قيمته.

Exit mobile version