بقلم: الدكتورة علا عيد
في زمنٍ تتهاوى فيه ركائز الدولة، وتتمزّق فيه الطبقة الوسطى، ويعيش فيه اللبناني على إيقاع الخسارة اليومية، يبقى التعليم القطاع الوحيد الذي لم يُطفئ أنواره. ليس لأنه محميّ أو مُمَوَّل أو مستقر، بل لأن هناك طرفًا واحدًا لا يزال يقف في مواجهة الانهيار: الأستاذ.
إن الأزمة المالية لم تُسقط قيمة الليرة فحسب، بل هزَّت البنى الرمزية التي يقوم عليها المجتمع: الثقة، الأمان، والقدرة على الحلم. وفي مثل هذه اللحظات، تظهر أهمية التربية بوصفها فعلًا اجتماعيًا وجوديًا، لا مجرد خدمة عامة. فالتربية هي العملية التي يعيد فيها المجتمع إنتاج ذاته، ويؤسّس معنى الاستمرار. وفي لبنان، أصبح الأستاذ اليوم آخر حامل لهذا المعنى.
الأستاذ كفاعل سوسيولوجي لا كموظّف
تتعامل المقاربات السوسيولوجية مع المعلم لا بوصفه ناقلًا للمعرفة فقط، بل منتِجًا للهوية الجماعية. فالمدرسة ليست مكانًا محايدًا، بل فضاءً تُصاغ فيه القيم، وتنمو من خلاله أنماط التفكير والسلوك، وتتشكّل بدايات المواطنة.
وعندما تُصاب مؤسسات الدولة بالشلل، يتحوّل الأستاذ إلى فاعلٍ بنيويّ يحفظ توازن المجتمع من الانهيار الكامل. فهو ليس موظفًا يلتزم ساعات، بل نقطة ارتكاز يستند إليها الجيل الناشئ ليعرف من هو، وإلى أين ينتمي، وما الذي يمكن أن يطمح إليه وسط الركام.
العمل التربوي خارج منطق السوق
ما يعيشه المعلمون في لبنان اليوم لا ينسجم مع أي معيارٍ اقتصادي معقول:
راتب لا يساوي تكلفة النقل. ميزانية مدرسية بالكاد تغطي الورق. ضغط نفسي هائل. غياب أمان اجتماعي.
ومع ذلك، يستمرون.
هذه المفارقة تعبّر عن ظاهرة نادرة في علم الاجتماع التربوي:
العمل الذي يستمر خارج منطق الربح.
يستمر لأن الأستاذ يرى في دوره قيمة تتجاوز المردود المادي؛ يرى نفسه حارسًا لمعنى الجماعة. لذلك، فإن صمود الأساتذة ليس مجرد تحمّل ظروف صعبة، بل هو مقاومة ثقافية ضد تحلّل المجتمع.
التعليم كمساحة أخيرة للتماسك
في مجتمعات الأزمات، تصبح المدرسة مساحةً لحماية الأطفال من التفكك النفسي والاجتماعي.
هي المكان الوحيد الذي ما زال يقدّم:
انتظامًا يوميًا يشبه الحياة الطبيعية.
علاقة ثابتة مع بالغين قادرين على الإصغاء.
إطارًا قيميا يخفّف من أثر الفوضى في الخارج.
الأستاذ هو الذي يمنح هذه المساحة معناها.
هو الذي يخلق للطفل شعورًا بأن العالم لم ينهر بالكامل، وأن هناك ما يستحق البقاء.
دور رمزي يتجاوز حدود الصف
في زمن الانهيار، لم يعد الأستاذ ينقل المعرفة فقط. بل أصبح:
مرشدًا نفسيًا في غياب الدعم الرسمي.
وسيطًا اجتماعيًا بين المدرسة والبيت.
عامل استقرار في مجتمع يفتقد كل أشكال الاستقرار.
نموذجًا أخلاقيًا في زمن تتراجع فيه كل النماذج.
وهذا ما يجعل الحديث عن حقوق الأساتذة مسألةً وجودية، لا مادية. فأي انهيار في وضع المعلم هو انهيار مباشر في قدرة المجتمع على إنتاج جيلٍ متوازن، قادر على العيش المشترك، وعلى إعادة بناء الوطن.
خاتمة: قيمة الإنسان قبل قيمة العمل
إن قضية الأستاذ في لبنان اليوم ليست قضية رواتب ولا صناديق تمويل ولا ساعات تدريس إضافية.
إنها قضية قيمة الإنسان.
فحين يتعرّض الأستاذ للإذلال الاقتصادي، يتعرّض معه المجتمع كله للإفقار المعرفي والروحي.
وحين يصمد الأستاذ، يصمد معه الحدّ الأدنى من الأمل.
في نهاية المطاف، لن يقيس التاريخ عدد المدارس المفتوحة في زمن الانهيار، بل سيقيس عدد الأساتذة الذين قرّروا البقاء.
هؤلاء هم الذين حفظوا ما تبقّى من هذا الوطن، وعلّموا أبناءه معنى النهوض، حتى قبل أن ينهض الوطن.
لذلك، فإن إنصاف المعلم اليوم ليس دعمًا لفئةٍ مهنية، بل حمايةٌ لمستقبل مجتمعٍ بأكمله.
الأستاذ في زمن الانهيار المالي: صمودٌ تربويّ يحفظ تماسك المجتمع

بعاصيري تشكر “الميدل إيست” على دعم المدرسة الرسمية: انطلاقة لحملة وطنية لدعم التعليم
الجامعة اللبنانية: صرح العلم والوطن
النائب محمد سليمان يبحث مع وزيرة التربية ريما كرامي قضايا تربوية وخدماتية
ال AUT تمدّ جسور العلم إلى عكّار: افتتاح مرتقب للصرح الجامعي الجديد في الأول من أيلول
في حضرة الختام: المدرسة الرسمية، الامتحانات، والأمل الذي لا يُهزم.
الأساتذة المتعاقدين في لبنان: بين الذلّ المؤسساتي وحق الكرامة التربوية
مؤتمر صحافي لوزيرة التربية غداً يتعلق بإتمام العام الدراسي والامتحانات الرسمية
روابط التعليم الرسمي: للإضراب والامتناع عن العمل اعتباراً من صباح غد الجمعة إلى حين دفع المستحقات