الهدوء العقلي مقابل سياسة الظلم

بقلم الباحثة دولت طليس
… تحت المطر، وبين أصوات الجنود، لم يكن يفكّر بالسلطة ولا بالذهب والقصر، بل في نفسه. في عواصف الفكر التي لا تهدأ، لا أحد يمتلك أن يسرق سلامك ،الا اذا أنت منحته المفاتيح.
هكذا كتب أوريليوس ذات صباح بارد، بينما كانت جيوش البرابرة تُحاصر الجهة الشمالية للأمبراطورية.
نحن اليوم بعد قرون طويلة، ما زلنا نحارب ذات الحروب السابقة. ولكن سيوفنا أصبحت أفكاراً، وجيوشنا هموماً.
نعم نحن اليوم نحارب الخوف، والقلق، والغضب، والحسد، والضوضاء التي تنتهي في عقولنا. نحن اليوم نبحث عمّا بحث عنه ماركوس منذ قرون…
نبحث عن ذلك الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن يمنحك إياه أحداً. نبحث عن الهدوء، في نظام لا يمنحنا حقوقنا، بل يطالبنا بالصبر عليها…
الهدوء الذي استدعاه الرواقي “ماركوس أوريليوس” هو ليس الهروب من الظلم أو الألم، او اللامبالاة، بل مواجهة هذا الظلم بوعي، وأن ترفض الظلم بعقلٍ لا تُديره الاستفزازات، وبموقف لا تُصادره ردود الفعل.
الثبات في وهج العاصفة كالذي يعيش في قلب النار، دون أن تحترق. هكذا تُبنى المواقف الثابتة.
نعم أن ترى الظلم دون أن تصبح ظالماً، هذه عمق الأخلاق. قياسًا لما نشهده الآن في مجتمعاتنا من الاستغلال، والحرمان، والإهمال، والتهميش…
في التجربة الإنسانية، ليس أقسى من أن يعيش الانسان الظلم يومياً. وأن يختبر التهميش كأنه قدر دائم. ولكن العقل يقول أنّ الامتحان الحقيقي للإنسان المقهور ليس في مقدار الظلم الواقع عليه، بل في كيفية تعاطيه مع هذا الظلم. فظلم السلطة التي غيّبت المشاريع والخدمات والتنمية عن عكار، كما وظلم التمثيل السياسي الذي حوّل الحرمان الى آداة انتخابية، يجب أن يتحوّل الى وعيٍ عند المواطن. يجعل الألم معرفة لا غريزة.
مفتاح الخوف يُحاصر الناخب من خسارة مساعدة أو خدمة، ومفتاح الحاجة والعصبية واليأس يهمس في عقولنا:” لا يوجد أمل… الكل متل بعض”. هذه المفاتيح عندما يمنحها الناخب، يصبح السلام الداخلي رهينة بيد السياسي.
فالانسان في أقسى ظروف الحرمان، يجب أن يحافظ على صفاء جوهره، ولا يبيع وعيه.
التغيير الآن يبدأ حين نرفض أن نكون صورة مصغّرة عن الظالم، عن الفاسد، عن الاستغلالي..
والمقاومة الأخلاقية هنا هي التمسّك بمبادئك حتى لو العالم حولنا ينهار. ولا يتم ذلك الا من خلال الوعي النقدي، والهادئ، القادر على كسر المنظومة دون أن يسقط في الفوضى.



