لبنان: الدولة التي تحتضن السرطان وتقتل مواطنيها بصمت
بقلم: د. علا عيد
المقدمة: لبنان بين الأرقام المروعة والكارثة الصامتة
لبنان اليوم ليس مجرد دولة تواجه أزمة صحية عابرة، بل أصبح مختبراً حياً للكارثة الصحية. دراسة حديثة نشرتها مجلة The Lancet الطبية المحكمة كشفت أن لبنان يتصدر العالم في زيادة معدلات الإصابة والوفيات بالسرطان بين عامي 1990 و2023، مع ارتفاع الوفيات من 65.2 إلى 117.3 وفاة لكل 100,000 نسمة، أي بنسبة زيادة تصل إلى 80%، وهو الرقم الأعلى عالمياً.
هذا التصاعد الصادم لا يمكن تفسيره مجرد تفسير طبي فردي، بل هو نتاج تراكم عقود من الإهمال المؤسسي، تلوث البيئة، الفشل في الرقابة الصحية، وسلوكيات المجتمع اليومية. لبنان أصبح نموذجًا حياً لكيفية تحوّل الدولة الغائبة والمجتمع غير الواعي إلى عوامل مدمرة للصحة العامة. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات، بل صوت إنذار للعالم وللسلطات اللبنانية: حياة المواطنين مهددة بشكل مباشر، والمستقبل الصحي للأجيال القادمة في خطر شديد.
الملوثات البيئية: القاتل الصامت
منذ الأزمة الاقتصادية في 2019، شهدت بيروت ارتفاعاً غير مسبوق في الاعتماد على المولدات الكهربائية العاملة بالديزل، إضافة إلى الانبعاثات الصناعية غير المنظمة. هذه الملوثات ترفع تركيز الجسيمات الدقيقة والمواد المسرطنة في الهواء بشكل مستمر.
أبحاث الجامعة الأمريكية في بيروت أظهرت أن معدل الإصابة بالسرطان ارتفع بنسبة 30% سنوياً منذ 2020 نتيجة التعرض لهذه الانبعاثات. الهواء الملوث هنا ليس مجرد إزعاج، بل عامل محدد في نشوء الأورام الرئوية والدماغية وأنواع أخرى من السرطان. ضعف التشريعات البيئية، غياب الرقابة على الانبعاثات، وغياب الاستثمارات في الطاقة النظيفة جعل المواطن اللبناني يتنفس موتاً يومياً، فيما تتجاهل الدولة مسؤوليتها الأساسية في حماية البيئة والصحة العامة.
المياه والغذاء: سموم غير مرئية
شبكات المياه المتهالكة والمصادر غير الخاضعة للرقابة، إضافة إلى تلوث الغذاء بالمبيدات والمواد الكيميائية، تزيد من مخاطر الإصابة بالأمراض المزمنة والسرطان.
تقديرات حديثة تشير إلى أن 15% من السكان يتعرضون للنيترات و5% للأرسنيك في مياه الشرب. هذه السموم لا تقتصر آثارها على الصحة الحالية فقط، بل تؤثر على الأجيال القادمة عبر الطفرات الجينية والمضاعفات الصحية المزمنة. ضعف الرقابة الحكومية يعكس غياب سياسات الوقاية البيئية والصحية، ويجعل المواطن رهينة لمخاطر يومية لا يملك السيطرة عليها.
ثقافة المجتمع: اللامبالاة قاتلة
السلوكيات الفردية تشكل جزءاً أساسياً من المنظومة الصحية. ارتفاع معدلات التدخين التي تصل إلى 70% بين البالغين، الإهمال في التغذية، وقلة ممارسة الرياضة، كلها عوامل مضاعفة لمخاطر الإصابة بالسرطان.
غياب الثقافة الصحية العامة يعكس قصور الحملات التوعوية الحكومية وضعف الاستثمار في التعليم الصحي. المواطن الذي يتجاهل المخاطر اليومية يصبح شريكاً غير مباشر في تفاقم الأزمة. الواقع الاجتماعي هذا، إذا جمعناه مع التلوث البيئي ونظام صحي منهار، يوضح كيف تتداخل عوامل متعددة لتنتج كارثة مركبة يصعب السيطرة عليها إلا بإصلاح شامل على المستويات البيئية والاجتماعية والصحية.
النظام الصحي: انهيار متواصل
النظام الصحي اللبناني يعاني من أزمات هيكلية ومالية مستمرة. نقص المعدات، ندرة الأدوية المتخصصة، وغياب التشخيص المبكر، جميعها عوامل تجعل كل حالة سرطان تهدد الحياة بشكل أكبر.
ارتفاع معدل الوفيات هنا ليس نتيجة طبيعية للمرض فحسب، بل نتاج مباشر لفشل الدولة في تأمين نظام صحي متكامل وفعّال. في الوقت الذي تعاني فيه الدول الأخرى من انخفاض معدلات الوفيات بفضل التشخيص المبكر والتوعية، يظل اللبناني ضحية لنظام عاجز يتركه في مواجهة المرض بلا حماية ولا دعم حقيقي.
العلاقة بين الصحة والبيئة والسلوك الاجتماعي
لبنان يمثل مثالاً حيًا لكيفية تفاعل البيئة الملوثة، السلوكيات الفردية، والفشل المؤسسي لتوليد كارثة صحية مركبة. المواطن يعيش في هواء ملوث، يشرب مياهاً ملوثة، ويستهلك غذاءً ملوثاً، في حين أن نظام الرعاية الصحية غير قادر على التدخل الفعّال. كل هذه العوامل تجعل الأزمة متشابكة ومعقدة، وتوضح حجم الإهمال المؤسسي والاجتماعي على مدى عقود.
الحلول الممكنة والفورية
لتجنب المزيد من الكوارث، يجب تنفيذ خطوات عاجلة:
1. الانتقال إلى الطاقة النظيفة لتقليل الاعتماد على المولدات الملوثة.
2. تطوير رقابة صارمة على المياه والغذاء لضمان سلامة المواطنين.
3. إطلاق حملات توعية صحية مستمرة وشاملة لتعزيز الثقافة الصحية.
4. إصلاح النظام الصحي وتزويده بالمعدات والأدوية اللازمة للتشخيص المبكر والعلاج الفعال.
5. تبني سياسات بيئية واقتصادية مستدامة تمنع تفاقم الأزمة وتخلق بيئة آمنة للأجيال القادمة.
الخاتمة: لبنان على مفترق طرق تاريخي
لبنان اليوم ليس مجرد دولة في أزمة، بل ساحة اختبار حقيقي للحياة والموت. كل يوم تأخير في اتخاذ الإجراءات اللازمة يعني المزيد من الأرواح المهدورة، والمستقبل الصحي للأجيال القادمة في خطر مباشر. هذه ليست مجرد أرقام على ورق، بل حياة الناس على المحك، وحقوقهم الأساسية تتعرض للانتهاك بشكل يومي.
إذا لم تتحرك الدولة والمجتمع معًا فورًا، فإن لبنان سيصبح دولة يحتضن السرطان بصمت، ويترك مواطنيها يواجهون الموت بلا حماية ولا دعم. الحياة في هذا البلد أصبحت رهينة لسنوات من الإهمال المؤسسي والاجتماعي، والكارثة اليوم ليست محتملة، بل واقع ملموس.
لبنان بحاجة إلى صحوة وطنية عاجلة، إرادة سياسية حقيقية، وثقافة مجتمعية صحية، قبل أن تتحول هذه الكارثة إلى إرث دائم للأجيال القادمة. لا وقت للتردد؛ كل لحظة تأخير تعني وفاة جديدة، وكل إحصائية غير معالجة تعني مأساة شخصية ووطنية لا يمكن محوها.
لبنان: الدولة التي تحتضن السرطان وتقتل مواطنيها بصمت
