د. ليون سيوفي – باحث وكاتب سياسي
لم أكن أبحث عن اكتشافِ البارود، حينَ حذّرتُ مراراً من الحرب التي تُحضّرها إسرائيل ضدّ لبنان. كنتُ أقرأ في لغةِ الميدان ما يتجاوزُ المناوشاتِ اليومية، وأرى في حركةِ العدوّ إصراراً على إشعالِ مواجهةٍ تُعيدُ رسمَ معادلاتٍ داخليةٍ وإقليميةٍ دفعةً واحدة. واليوم، أكرّر التحذير نفسه: إن اندلعت الحرب، فلن تبقى الخريطة اللبنانية كما هي، ولن تسلمَ المنطقة من الزلزال.
حزبُ الله… بين الردّ والحسابات يتصرّف اليوم وفق معادلةٍ دقيقة، الردُّ على العدوان دون الانجرار إلى حربٍ شاملة.
لكنّ الواضح أنّ الإسرائيلي لا يخوض معركة اختبار، بل حربَ استنزافٍ مدروسة تهدفُ إلى دفع الحزب إمّا لتقديم تنازلاتٍ داخليةٍ تُضعف حضوره، أو إلى استدراجه نحو مواجهةٍ مفتوحةٍ تُستثمرُ لاحقاً دولياً لإعادةِ رسم التوازنات في لبنان والمنطقة.
الحزبُ من جهته لن يقبل بالانكفاء، لأنّ أيَّ تراجعٍ اليوم يعني انهياراً لمنظومةِ الردع التي بناها طوال عقود، وسيقرأه خصومه على أنّه اعترافٌ بالعجز. لذلك، يحاولُ أن يُبقي خطوطه الدفاعية مشتعلة، دون أن يمنحَ العدوّ حرباً شاملةً كان ينتظرها منذ عامٍ كامل.
الحكومة اللبنانية بين المطرقة والسندان
في المقابل، تقفُ الحكومةُ اللبنانية أمام اختبارٍ مصيري.
فهي تدركُ حجمَ الخطر على الاقتصاد، والبنية التحتية، والأمن الاجتماعي إذا انفجرت الحرب، لكنها مكبّلةٌ بالضغوط الغربية التي تدفعها نحو خيار “التفاوض بأيّ ثمن”، ولو على حساب السيادة.
هذا التوجّه يعني، واقعياً، تحضير الأرض لتنازلٍ جديدٍ بغطاءٍ إنسانيّ، يكرّر تجربةَ اتفاق 17 أيّار بأسماءٍ مختلفة، وأبوابٍ جديدة.
وحزبُ الله، كما يُظهر في بياناته ومواقفه، يعتبرُ أيّ حوارٍ في ظلّ القصف خضوعاً لا حواراً، ويعدّه تفريطاً بالكرامة الوطنية قبل الأرض.
أخطر ما في المشهد ليس القصف ولا الردّ، بل ما يُخطّط له العدوّ بعد القصف.
إسرائيل لا تُخفي رغبتها في فرض واقعٍ جغرافيّ جديد في الجنوب، عبر شريطٍ أمنيٍّ أعمق، يُفرغ القرى من سكانها ويُغيّر التوازن الديموغرافي، تمهيداً لمرحلةٍ تفاوضيةٍ تُعيدُ لبنان إلى زمنِ الوصاية الأمنية، ولكن بثوبٍ “دوليٍّ ناعم”.
إنّها محاولةٌ لإلغاء المقاومة من الجغرافيا قبل السلاح، ومن الذاكرة قبل التاريخ.
لسنا أمام تصعيدٍ عابر، بل أمام معركة وجودٍ لبنانيةٍ بامتياز.
فإمّا أن نكونَ دولةً تملك قرارها، وتُمسك بسيادتها مهما اشتدّ الضغط،
وإمّا أن نصحو يوماً على وطنٍ مقسومٍ، حدودهُ تُحدّدها طائراتُ العدوّ لا إرادةُ الشعب.
لقد حذّرتُ منذ سنواتٍ من هذا اليوم، من ساعةٍ سيُدقّ فيها جرسُ الجنوب إيذاناً بتغييرٍ كبيرٍ في وجه لبنان والمنطقة.
واليوم، أكرّر التحذير ذاته، بصوتٍ أعلى…
إن لم نتحرّك الآن، فسنجد أنفسنا غداً نبحث عن وطنٍ كان اسمه لبنان… ولكن هل من آذانٍ صاغية؟