Site icon عكّار أولاً

النزاع اللبناني–اللبناني واللعبة الطائفية القاتلة

النزاع اللبناني–اللبناني واللعبة الطائفية القاتلة

د. علا عيد

يعيش لبنان اليوم في قلب مأزق داخلي يجعل كل اختلاف سياسي يتحوّل إلى نزاع لبناني–لبناني ذي وجه طائفي حاد، بحيث تصبح الدولة ساحة لتصفية الحسابات لا إطارًا ضامنًا للعيش المشترك. فالنظام القائم على تقاسم السلطة بين الطوائف حوّل الانتماء الديني من رابطة ثقافية إلى سلاح سياسي، بحيث يندفع كل فريق إلى الدفاع عن حصته وكأنها مسألة حياة أو موت. تتجلّى هذه البنية في الأزمات المتكررة التي تشلّ المؤسسات وتستنزف المجتمع، حيث يختلط السياسي بالطائفي، والاقتصادي بالأمني، في دورة أزمات لا تنتهي.

الوقائع الراهنة تؤكد أن هذا النزاع ليس مجرّد ذاكرة حرب أهلية، بل واقع يومي متجدد. في آب/أغسطس 2025، على سبيل المثال، حذّر أحد أبرز قادة حزب الله من أن أي مشروع حكومي لنزع سلاح الحزب سيقود إلى فتنة، معتبراً ذلك مساساً بتوازن الطوائف. هذا الموقف، الذي أثار ردوداً حادة من قوى سياسية أخرى، كشف كيف يُستخدم السلاح كأداة حماية طائفية، وكيف يتحوّل أي بحث في سيادة الدولة إلى تهديد بحرب أهلية. وفي بيروت، تحوّلت الانتخابات البلدية إلى ساحة توتر طائفي بعدما تبادل النواب الاتهامات حول «استغلال الطائفة» في الحملات الانتخابية، في مشهد يبيّن أن حتى أبسط الاستحقاقات المحلية تُقرأ بمنظار الموازين المذهبية. كذلك شهد المدخل الجنوبي للعاصمة في منطقة خلدة اشتباكات مسلّحة بين مؤيدين لحزب الله وعشائر سنّية بعد رفع أعلام وشعارات دينية، ما أدى إلى سقوط جرحى وأعاد إلى الأذهان سهولة انزلاق الخلافات الرمزية إلى عنف مباشر. ولم تتوقف ارتدادات اللعبة الطائفية عند الحدود اللبنانية، إذ أغلقت مدينة راشيا محلاتها حدادًا على ضحايا حادثة طائفية في السويداء السورية، في دليل على تداخل الداخل اللبناني مع توترات الجوار وعلى قابلية الشارع المحلي للاشتعال بمجرد أن تُستحضر الهوية المذهبية.

هذه الوقائع ليست أحداثًا معزولة، بل أعراض متكررة لمنظومة تجعل أي إصلاح سياسي أو اقتصادي يبدو كأنه استهداف لطائفة بعينها. انتخاب رئيس الجمهورية يتعطل سنوات بذريعة حماية حقوق المسيحيين أو المسلمين؛ تشكيل الحكومات يتحوّل إلى معركة على «الثلث الضامن» أو «الميثاقية»؛ إصلاحات مصرفية ومالية تُقاس بميزان من يربح ومن يخسر من الزعماء. النتيجة هي شلل مؤسسي مزمن، وانهيار اقتصادي غير مسبوق، وانسداد أفق يدفع الشباب إلى الهجرة أو إلى الارتهان لزعيم يوفر لهم وظيفة أو حماية.

إنّ الخروج من هذا القيد لا يتحقق بترقيع دستوري أو تسويات ظرفية، بل بعملية سياسية شجاعة تعيد تعريف المواطنة على أسس مدنية واضحة. المطلوب هو الانتقال من منطق «حماية الطوائف» إلى منطق دولة تحمي حقوق الأفراد، دولة تفصل الهوية الدينية عن السلطة وتبني اقتصادًا منتجًا يحمي المواطن لا الزعيم. هذا التحوّل ليس ترفًا فكريًا بل شرط بقاء: فلبنان إمّا أن يتحرّر من اللعبة الطائفية التي تقتله ببطء، أو يواصل انحداره نحو تفكك لا عودة منه.

Exit mobile version